Tuesday, November 25, 2014

قصة عرائس المروج لجبران خليل جبران

رماد الأجيال و النار الخالدة 



شعر بحفيف أجنحة لطيفة ترفرف بين أضلعه الملتهبة و حول لفائف دماغه المنحلّة. شعر بالحبّ القوي العظيم يشمل قلبه و يمتلك أنفاسه ، ذلك الحبّ الذي يبيح مكنونات النفس للنفس و يفصل بتفاعيله بين العقل و عالم المقاييس و الكمّية ، ذلك الحبّ الذي نسمعه متكلّما عندما تخرس ألسنة الحياة و نراه منتصباً كعمود النور عندما تحجب الظلمة كلّ الشياء . ذلك الحبّ ، ذلك الإله قد هبط في تلك الساعة الهادئة على نفس عليّ الحسيني و أيقظ فيها عواطف حلوة و مرّة مثلما تستنبت الشمس الزهور بجانب الشواك.

**

" من أنت أيّتها القريبة من قلبي ، البعيدة عن ناظري ، الفاصلة بيني و بيني ، الموثقة حاضري بأزمنة بعيدة منسيّة ، أطيف حوريّة جاءت من عالم الخلود لتبيّن لي بُطل الحياة و ضعف البشر ، أم روح مليكة الجان تصاعدت من شقوق الرض لتسترق منّي عاقلتي و تجعلني سخرية بين فتيان عشيرتي ؟ من أنت و ما هذا الفتون المميت المحيي القابض على قلبي ؟ و ما هذه المشاعر المالئة جوانحي نوراً و ناراً ؟ و من أنا و ما هذه الذات الجديدة التي أدعوها )أنا( و هي غريبة عني ؟ هل تجرّعْت ماء الحياة مع دقائق الثير فصرت ملكاً أرى و أسمع خفايا السرار ، أم هي خمر وساوس سكرت بها فتعاميت عن حقائق المعقولات ؟ " .

**

" يا من تبينها النفس و تدنيها و يحجبها الليل و يقصيها - أيتها الروح الجميلة الحائمة في فضاء أحلمي , قد أيقظت في باطني عواطف كانت نائمة مثل بذور الزهور المختبئة تحت أطباق الثلج ، و مررت كالنسيم الحامل أنفاس الحقول و لمست حواسي فاهتزّت و اضطربت كأوراق الشجار ! دعيني أراكِ إن كنت لبسة من المادة ثوباً . أو مري النوم أن يغمض أجفاني فأراكِ بالمنام إن كنت معتوقة من التراب . دعيني ألمسكِ . أسمعيني صوتكِ . مزّقي هذا النقاب الحاجب كلّيتي و اهدمي هذا البناء الساتر ألوهيّتي و هبيني جناحاً فأطير وراءكِ إلى مسارح المل العلى إن كنتِ من سكانها أو لمسي عيني بالسحر فأتبعك إلى مكامن الجان إن كنت من عرائسها . ضعي يدكِ الخفيّة على قلبي و امتلكيني إن كنت حريّا باتّباعك " .

** 

بلغ الجدول المذيع بخريره سرائر الحقول فجلس على ضفته تحت أغصان الصفصاف المتدلية إلى المياه كأنّها تروم امتصاص عذوبتها ، و انثنت نعاجه ترتعي العشاب و ندى الصباح يتلمّع على بياض صوفها . و لم تمرّ دقيقة حتى شعر بتسارع نبضات قلبه و تضاعف اهتزازات روحه ، و مثل راقد أجفلته أشعة الشمس تحرّك و
تلفّت حوله فرأى صبيّة قد ظهرت من بين الشجار تحمل جرّة على كتفها و تتقدّم على مهل نحو الغدير و قد بلّل النّدى قدميها العاريتين .
و لمّا بلغت حافة الجدول و انحنت لتمل جرّتها التفتت نحو الحافة المقابلة فالتقت عيناها بعيني علي فشهقت و رمت بالجرّة ثمّ تراجعت قليلً إلى الوراء و شخصت به شخوص ضائع وجد من يعرفه . . . مرّت دقيقة كانت ثوانيها مثل مصابيح تهدي قلبيهما إلى قلبيهما مبتدعة من السكينة أنغاماً غريبة تعيد إلى نفسيهما صدى
تذكاراتٍ مبهمةٍ و تبيّن الواحد منهما للخر في غير ذلك المكان محاطاً بصور و أشباح بعيدة عن ذلك الجدول و تلك الشجار ، فكان كلّ منهما ينظر إلى الخر نظرة استعطاف و يتفرّس فيه مستلطفاً ملمحه مصغياً لتنهداته بكلّ ما في عواطفه من المسامع ، مناجياً إيّاه بكلّ ما في نفسه من اللسنة ، حتى إذا ما تمّ التفاهم و
تكامل التعارف بين الروحين عبر عليّ الجدول مجذوباً بقوةٍ خفيّة و اقترب من الصبيّة و عانقها و قبّل شفتيها و قبّل عنقها و قبّل عينيها فلم تبدِ حراكاً بين ذراعيه كأنّ لذة العناق قد انتزعت منها إرادتها ، ورقّة الملمسة قد أخذت منها قواها ، فاستسلمت استسلم أنفاس الياسمين لتموّجات الهواء ، و ألقت رأسها على صدره كمتعبٍ وجد راحة . و تنهدت تنهدة عميقة تشير إلى حدوث انبساط في فؤاد منقبض و تعلن ثورات
جوانح كانت راقدة فأفاقت ، ثمّ رفعت راسها و نظرت إلى عينيه نظرة من يستصغر الكلم المتعارف بين البشر بجانب السكينة - لغة الرواح – نظرة من ل يرضى بأن يكون الحبّ روحاً في أجساد من اللفاظ .

**

تعانق الحبيبان و شربا من خمرة القبل حتى سكرا و نام كلّ منهما ملتفّا بذراعي الاخر إلى أن مال الظلّ و أيقظتهما حرارة الشمس. 

***

مارتا البانية 


نحن الذين صرفوا معظم العمر فى المدن الاهلة نكاد لا نعرف شيئاً عن معيشة سكان القرى و المزارع المنزوية فى لبنان ، قد سرنا مع تيار المدنية الحديثة حتى نسينا أو تناسينا فلسفة تلك الحياة الجميلة البسيطة المملوءة طهراً و نقاوة ، تلك الحياة التى إذا ما تأملناها وجدناها مبتسمة فى الربيع ، مثقلة فى الصيف، مستغلة فى الخريف ، مرتاحة فى الشتاء ، متشبهة بأمنا الطبيعة فى كل أدوارها . نحن أكثر من القرويين مالًا و هم أشرف منا نفوساً . نحن نزرع كثيراً و لا نحصد شيئاً ، أما هم فيحصدون ما يزرعون . نحن عبيد مطامعنا و هم أبناء قناعتهم . نحن نشرب كأس الحياة ممزوجة بمرارة اليأس و الخوف و الملل ، و هم يرتشفونها صافية.

*** 




يوحنا المجنون 


إن صراخ البائسين المتصاعد من جوانب هذه الظلمة لا يسمعه الجالسون باسمك على العروش، ونواح المحزونين لا تعيه آذان المتكلمين بتعاليمك فوق المنابر، فالخراف التى بعثتها من أجل كلمة الحياة قد انقلبت كواسر تمزق بأنيابها أجنحة الخراف التى ضممتها بذراعيك، وكلمة الحياة التى أنزلتها من صدر الله قد توارت فى بطون الكتب وقام مقامها ضجيج مخيف ترتعد من هوله النفوس. لقد أقاموا يا يسوع لمجد أسمائهم كنائس ومعابد كسوها بالحرير المنسوج والذهب المذوّب، و تركوا أجساد مختاريك الفقراء عارية فى الأزقة الباردة، وملأوا الفضاء بدخان البخور و لهيب الشموع، وتركوا بطون المؤمنين بألوهيتك خالية من الخبز، وأفعموا الهواء بالتراتيل والتسابيح، فلم يسمعوا نداء اليتامى وتنهيدات الأرامل. تعالَ ثانية يا يسوع الحىّي واطرد باعة الدين من هياكلك، فقد جعلوها مغاور تتلوى فيها أفاعي روغهم واحتيالهم. تعالَ وحاسب هؤلاء القياصرة، فقد اغتصبوا من الضعفاء ما لهم و ما لله.

**

أنتم كثار وأنا وحدي، فقولوا عنى ما شئتم، وافعلوا بي ما أردتم، فالذئاب تفترس النعجة فى ظلمة الليل، و لكن آثار دمائها تبقى على حصباء الوادى حتى يجئ الفجر و تطلع الشمس. 

***
المواكب 

و ما الحياة سوى نوم تراوده 
أحلام من بمراد النفس يأتمر 

**

ليس في الغابات دين لا ولا الكفر القبيح
فإذا البلبل غنى لم يقل هذا الصحيح
ان دين الناس يأتي مثل ظل ويروح
لم يقم في الأرض دين بعد طه والمسيح



أعطني الناي وغني فالغنا خير الصلاة
وأنين الناي يبقى بعد أن تفنى الحياة


** 
و أفضلُ العلم حلمٌ إن ظفرتَ بهِ
 و سرتَ ما بين أبناء الكرى سخروا 
فان رأيتَ أخا الأحلام منفرداً
 عن قومهِ و هو منبوذٌ و محتقرُ 
فهو النبيُّ و بُردُ الغَدّ يحجبهُ
 عن أُمةٍ برداءِ الأمسِ تأتزرُ 
و هو الغريبُ عن الدنيا وساكنِها
 و هو المهاجرُ لامَ الناس أو عذروا 
و هو الشديد و إن أبدى ملاينةً
 و هو البعيدُ تدانى الناس أم هجروا 

***

No comments:

Post a Comment